في إطار الدورة السادسة لليلة البيضاء للسينما وحقوق الإنسان المنظمة من لدن جمعية اللقاءات المتوسطية للسينما وحقوق الإنسان (16 -17 يونيو 2017 )، احتضنت قاعة الندوات بالمكتبة الوطنية للمملكة المغربية لقاء مناقشة حول موضوع “الحق في التربية”.
وقد دُعِي لإغناء النقاش في هذا اللقاء كل من أمينة المريني الوهابي، رئيسة الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري بالمغرب والمختصة في مجال التربية على حقوق الإنسان، ونادية البرنوصي أستاذة القانون الدستوري وعضو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، وفؤاد شفيقي، مدير المناهج بوزارة التربية الوطنية والتعليم العالي والبحث العلمي، و بهينت شنطلنكسي، مختص في برنامج العلوم الاجتماعية والإنسانية بالمكتب الإقليمي لليونيسكو بالمنطقة المغاربية. وقد نشط أطوار اللقاء عبد الله الترابي، وهو صحفي ومختص في العلوم الاجتماعية والإنسانية.
وعالجت مختلف المداخلات موضوع الحق في التربية من زوايا مختلفة ومتكاملة يمكن حصرها في ثلاثة أوجه ألا وهي : مفهوم ومبادئ الحق في التربية، دور التربية في النمو السليم للطفل وتعزيز المواطنة الغد ونظرة عامة عن واقع المدرسة المغربية.
الحق في التربية : المفهوم والمبادئ
اعتبرت نادية البرنوصي، أن الحق في التربية يعد حقا اجتماعيا وإنسانيا أساسيا “تتوقف على إعماله حقوق أخرى مثل الحق في الصحة والتظاهر والتصويت…”، وأضافت أن الحقوق الاجتماعية، بما فيها الحق في التعلم، لطالما عانت من بعض الهشاشة لأنها غير قابلة للتقاضي ولأن إعمالها يتوقف على قدرات وإمكانات كل دولة عكس الحقوق السياسية والمدنية، غير أن تنامي الاحتجاجات وتفاقم مظاهر الفقر ومد العولمة جعل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية تحظى بالاهتمام متزايد وتنامت الدعوات المطالبة بجعلها قابلة للتقاضي وإلزام الدول بإعمالها إعمالا كاملا. كما حرصت المتدخلة على التذكير بأن إعمال الحق في التربية يقوم على مبادئ حرية الاختيار، ضمان الولوج للجميع والمجانية.
أما أمينة المريني الوهابي، فقد ذكرت بأن الحق في التعليم هو حق مزدوج (الحق في الولوج للتربية والحق في جودة مضمونها)، حيث تنص المادة 28 من اتفاقية حقوق الطفل على حق الطفل في التعليم وعلى إلزامية ومجانية التعليم الابتدائي، فيما تشدد المادة 29 من نفس الاتفاقية على أن يكون تعليم الطفل موجها لتنمية شخصيته ومواهبه وقدراته العقلية والبدنية وتنمية احترام حقوق الإنسان واحترام هويته الثقافية ولغته وقيمه الخاصة والحضارات المختلفة عن حضارته وإعداده لحياة تستشعر المسؤولية في مجتمع حر، بروح من التفاهم والسلم والتسامح والمساواة بين الجنسين والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات وتنمية احترام البيئة الطبيعية.
وفي نفس المضمار، بسط بهينت شنطلنكسي، ملامحا من رؤية منظمة اليونيسكو لمسألة الحق في التربية والتي ترتكز بالنسبة لها على ثلاثة مفاهيم أساسية : الاحترام (عبر الامتناع عن المس بالحق في التربية) والحماية (أي حماية الحق في التربية من أي انتهاك) ثم الإعمال (من خلال نهج سياسات عمومية تحقق ولوج الجميع للتعليم الجيد).
وتعتبر اليونيسكو، يضيف بهينت شنطلنكسي، الحق في التربية ملكا مشتركا (صالحا مشتركا حسب المصطلح المستعمل من لدن المنظمة) وهو مفهوم يجعل من “ابتكار المعرفة واكتسابها وإقرار صالحيتها واستعمالها أمورا مشتركة لجميع الناس، كجزء من ّ مسعى مجتمعي جماعي”، كما جاء في تقرير اليونيسكو لسنة 2015 تحت عنوان “إعـادة التفكير في التـربـيــة والتعليم : نحو صالح مشـترك عاملي؟”. إن هذا التصنيف للتربية كملك مشترك يأنى بها، يضيف المتحدث، أن تكون مجرد مجال لجني الربح.
دور التربية في بناء وتعزيز المواطنة
احتل الدور المركزي للتربية في تنمية “التفكير النقدي” لدى الطفل حيزا هاما في مداخلة أمينة المرني الوهابي حيث اعتبرت أنه ليس المطلوب من المنظومة التعليمية الاكتفاء بتلقين المعارف للطفل وإنما تعويده على تعبئة تلك المعارف وحسن توظيفها، مع الحرص على غرس الحس النقدي بوصفه “طريقة تفكير وتمرين يومي غايته بناء مواطن واع”.
وبعد ما أبرزت الاقبال المكثف للأطفال والشباب على استعمال التكنولوجيات الحديثة للإعلام والاتصال واستهلاك محتويات وسائل التواصل الاجتماعي، أكدت أن افتقار هذه الفئة للحس النقدي لا يسعفها من أجل تقييم والحكم على تلك المضامين ولا توظيفها بطريق واعية تجعلها في منأى عن كل استغلال.
من جهة أخرى، اعتبرت أن المدرسة يجب أن تكون دائمة الانصات لمحيطها ومتفاعلة إيجابيا مع التغيرات التي يعرفها المجتمع لا سيما مجال حقوق الإنسان حتى تساهم بدورها في التغيير المنشود.
وقد ذهبت نادية البرنوصي في نفس المنحى عندما اعتبرت أن أول مهام التربية، خاصة في طور التعليم الأولي، تكمن في غرس القيم الإيجابية وتعزيز استقلالية الشخصية وتنمية الحس النقدي وتشجيع الاكتشاف، مضيفة أن من واجب المدرسة غرس قيمة استقلال الرأي والاختيار من خلال ممارسة حق الرفض.
أما بهينت شنطلنكسي، فإن كان يؤكد أن المدرسة تعد الضامن “لاستمرارية السلطة المجتمعية والتقاليد”، فإنه يشدد على واجبها في فهم والتفاعل دائم مع مطالب التجديد التي يحتاجها الشباب وينادون بها، مذكرا بدور التربية أيضا في تنمية “الحصانة الفكرية” لدى المتعلم.
واقع المدرسة المغربية
احتل تقييم واقع المدرسة المغربية حيزا مهما أيضا من المداخلات والنقاشات التي عرفها اللقاء، وتناول هذا التقييم عدة زوايا أبرزها حصيلة إعمال الميثاق الوطني للتربية والتكوين، التفاوتات المجالية والاجتماعية وتأثريها على حق الولوج للتعليم وعلى جودته، إشكالية التعليم والعمومي والخاص، أدوار محيط المدرسة (المجتمع المدني، هيئات الرقابة، الآباء والأمهات….).
وفي هذا الإطار قال فؤاد شفيقي إنه إذا كان اهتمام السلطات العمومية قد انصب على امتداد عدة سنوات على ضمان الولوج للتعليم وتوفير مقعد لكل طفل في المدرسة العمومية، وهو التوجه الذي حقق نتائج مهمة على الأقل على المستوى العددي (99 في المائة نسبة الولوج في الطور الابتدائي)، فإن الواقع أبرز أن ضمان الولوج للمدرسة ليس بالضرورة ضامنا لتوفير تعليم جيد يخول تفتح المدارك والتطور والاندماج في سوق الشغل. وأضاف أنه انطلاقا من وعي الأسر بهذا المعطى، فقد تنامت مطالبها بتوفير التعليم والتكوين النافع.
وأبرز أن التفاعل مع هذه المطالب يقتضي تقوية التدابير التي تم القيام بها لحد الآن والحرص على تقليص الفجوة الموجودة بين ما هو منصوص عليه في المناهج والممارسات الفعلية في الأقسام الدراسية وتكوين الأساتذة وإشراك فاعلين آخرين ضمن المحيط المؤسسة.
من جهة أخرى، أوضح أن الممارسات الجيدة على المستوى الدولي، أبرزت أن النهوض بالمدرسة يمر عبر ضمان استقرار السياسات العمومية المعتمدة في مجال التربية والتكوين وتوفر تعبئة اجتماعية متواصلة حول المدرسة تقودها أساسا الطبقة المتوسطة (مع انخراط المجتمع المدني) والحرص على أن تحتل المدرسة العمومية مكانتها الاعتبارية المستحقة وخضوع السلطات العمومية المكلفة بالتربية والتكوين للمساءلة من لدن المواطن وهيئات المراقبة.
وأوضح أن من بين التحديات الأخرى التي تقوم أمام المدرسة المغربية تكمن في وجوب تعزيز الولوج للتعليم الأولي (40 في المائة لا يلجون له) وتعزيز ولوج الأطفال ذوي الإعاقة للتربية والتكوين.
وبخصوص الميثاق الوطني للتربية والتكوين فقد اعتبر أن الأمر يتعلق بوثيقة توجيهية غير ملزمة، مما يبين ضرورة الإسراع بإصدار القانون الإطار للرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي حتى يكون ملزما لكل الفاعلين.
وفي نفس السياق، اعتبرت أمينة المريني الوهابي أن الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي أعدته اللجنة الخاصة للتربية والتكوين يعد وثيقة هامة مكنت من تغيير جذري في براديغمات التعاطي مع التربية من خلال الانتقال من مفهوم التعليم إلى منطق التعلم (الاستقلالية، الحس النقدي، تعبئة المعارف وحسن توظيفها) بالإضافة إلى التشديد على مركزية التلميذ في العملية التعليمية. غير أنها أعربت عن أسفها عن غياب آليات فعالة لمتابعة تنفيذ الميثاق فضلا عن تأثر إعمال الميثاق سلبا بصعوبة خلق التوازن بين الزمن السياسي المحكوم بالسعي وراء تحيق النتائج الآنية والزمن البيداغوجي الذي يتطلب إصلاحا على المدى الطويل.
من جانبها، بينت نادية البرنوصي أن عملية تقييم حصيلة تطبيق الميثاق الوطني للتربية والتكوين التي قام بها المجلس الأعلى للتربية والتكوين مكنت من الوقوف على اختلالات تهم ضعف تكافؤ الفرص في الولوج للتعليم، صعوبات في التوفيق بين التعليم وسوق الشغل، ضعف استعادة التربية غير النظامية للتلاميذ المنقطعين. إلا أنها اعتبرت أن ثمة مؤشرين إيجابين من شأنهما الدفع بمسار إصلاح المنظومة التعلمية ألا وهما وجود إرادة على أعلى هرم في السلطة بالنهوض في العليم وإطلاق مسلسل إقرار إطار قانوني ملزم يتمثل في القانون الإطار للرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التربية والتكوين والبحث العلمي.
وتناول النقاش ثنائية التعليم العمومي والخاص حيث اعتبره البعض سببا في وجود “مدرسة بسرعتين”. وفي هذا النطاق، ذكرت نادية البرنوصي انه لا يجب حسب الأمم المتحدة أن تتجاوز نسبة القطاع الخاص 20 في المائة من حجم المنظومة التعليمية وإلا أدى ذلك إلى إعادة إنتاج التفاوتات الاجتماعية، في حين أكد بهينت شنطلنكسي ان الأمر لا يتعلق بمطالبة الدولة بمنع القطاع الخاص غير أنها تظل المسؤولة عن إعمال الحق في التربية ويقع على عاتقها تأطير ومراقبة القطاع الخاص وفق المعايير التالية : منع التمييز الاجتماعي والتفضيل والإقصاء وذلك حتى يساهم القطاع الخاص في مشروع مجتمعي وليس أن يكون مجرد وسيلة للاغتناء الفردي .